خاف كالقط وهرب كالجرذ

خاف كالقط وهرب كالجرذ ..
ثمة من كان يراهن على وهن الشعوب وعلى عجزها وعدم قدرتها عن الدفاع عن حقوقها ، وكلنا ساهم في هذا في لحظة اعتبر أن صمت الشعوب هو أكبر دليل على هذا الوهن وهو ما يبين خطأه في تونس حين خرج الآلاف للشوارع يناصرون البوعزيزي..
ثمة نازلة تنزل على الفرد عندما يرى من يحرق نفسه ومن يقتلها في مرحلة يأس يصل إليها الإنسان يعتقد فيها أن جميع الخيارات أغلقت وجميع الأبواب أوصدت في وجهه ، لكن ماذا إذا كان الشاب الذي أحرق نفسه هو من دعى إلى هذه الهبه الشعبية هل كان الشعب التونسي سوف يستجيب له ؟ لا أظن ذلك ، لقد أراد الشاب أن يحقق شيئين ، أن يتخلص من ألم يعتصره وأن يوصل رسالة إلى الخانعين والواهنين والمتخاذلين عن نصرة الشباب الطموح الذي يأمل في حياة مستقرة وجميلة وفاعلة ، ربما لا يدري الشاب الآن أن الرسالة وصلت وأن قناعة الشعب بحجم المرارة التي تعتصر الشعب التونسي والشباب التونسي خاصة قد بدت عليهم كما لو أنهم كانوا موتى ثم أحياهم بفعلته ، فهم يتصرفون بكل قوة للمطالبة بالحياة التي ينشدها الشعب التونسي والشباب خاصة ، كما أنه لا يدري أيضاً أن من تسبب في إحراقه قد غادر البلاد إلى غير رجعة ، ذهب وجر وراءه العار والخزي والمثال السيء ، ذهب كما ذهب تشاوشيسكو وماركوس وشاه ايران ..
مؤمن أنا بأن كل قناعة في الدنيا متأصلة تحتاج إلى صدمة عقلية تحاول إقناع المحاورين بأن يراجعوا ما يتبنونه من فكر وما يطرحونه من رأي فكان هذا ما فعله الشاب التونسي وهذا ما سينعكس على كل الشعوب العربية التواقة للحرية والعيش بكرامة ، فالإنسان العربي اكثر من مجرد آلة طحين ، تواق للحرية للتعليم للثقافة للفكر الحر ، للإنجاز ، للفاعلية ، للتأثير، للمكانة ، للمساواة ، للحصول على الحقوق دون أي محاباة ، متى ما تحقق ذلك فإن مسألة الدولة أو سيادتها لن تكون سوى مطمح القليل كما أن التغيير لن يكون شعاراً مستداماً كما هو الآن بل شعاراً عابراً تطالب به الشعوب متى ما تعرضت حقوقها لللسلب وأموالها للنهب وبلدانها للخصوصية الفردية كما حدث في تونس ، مما جعل الناس يهرعون في الشوارع دون خوف من رجال الخوف الذين يسمون في العالم العربي تجاوزاً رجال أمن ، ودون خوف من إغتيال أو اعتقال ، لقد بلغ السيل الزبى ، وبلغت القلوب الحناجر ، ولم يعد الصبر خصلة حميدة في زماننا ، هكذا قلب الزعماء العرب المعادلة ، وهكذا جنوا على شعوبهم ، وهكذا يجعلونهم يثيرون وتغلي دمائهم في كل مكان .. لعل الكثير يدرك أنه مجرد خيار متأخر ، ونحن نقول أنه خيار متعقل لطالما انتظره العربي التواق للحرية وللديمقراطية ، فالعقل يقول والعقلاء يرددون بأن البلدان العربية ليست ملك خاص للزعماء وأسرهم ، كما أنها ليست إرث ورثوه عن آبائهم ، كما أن الشعوب ليسوا عبيداً حتى يدمنوا العبودية
فلا ينتفظون إلا بنبي يبشرهم بالجنان ، الشعوب في كثير من الأحيان متعقلة وواعية ومدركة ، إنها تعرف متى تنتفض ومتى تتعقل قد تحتاج إلى حراك اجتماعي وثقافي وسياسي يؤطرها ويصيغ خروجها لكنها في حال عدم وجوده يصبح خروجها غير مرضياً للكثيرين ، فمن كان يصدق بأن الشعب التونسي الذي يحكمه بن علي بقبضته سوف يسمعه هتافات من هذا النوع في الشوارع "الشغل استحقاق يا عصابة السراق" أو "تونس حرة وبن علي على برّة" أو "بن علي يا جبان شعب تونس لا يهان"،" خبزوماء بن علي لا " لقد أسمعوه هذه الهتافات حتى غادر البلاد بعد أن توعد بالمحاسبة للمفسدين وتوعد كذالك بخفض الأسعار وأقال وزير الداخلية وقال لا للرصاص ،لقد ظل لمدة شهر خائفاً كالقط يذكر الشعب التونسي بخمسين سنة من النضال في تونس كما قال ، لكن الشعب التونسي والعربي كره هذه الزعامات وكره الوعود الذي تطلق عندما يخرج عليهم الشعب ليريهم غضبه وحقده ونتائج صبره الطويل ، بعد أن ألفوا أن يدوسوه بأقدامهم وأن يطأوا دستوره بأحذيتهم ، مما يجعل الشعب التونسي هو الشعب المثال على الحركة الإحتجاجية المستمرة والتي يجب أن تستمر في دولنا العربية لتعطي درساً لـ بن مبارك وبن عبدالله وبن حسن وبن حافظ ولبو تفليقه وبن ...لخ
غادر بن علي البلاد وظل معلقاً في الهواء لا يدري إلى أين.. الى أن حط في السعودية وهذه هي نهاية الدكتاتورية ،نهاية المستبدين بشعوبهم ، نهاية المجرمين والسراق والعصابات ، نهاية نهابي الأراضي وجلادي الشعوب ، لا خيار لديهم سوى خيار الهروب من أوطانهم ومغادرة مزارعهم الخاصة ، الذين ظلوا يحتكرونها لهم ولآبنائهم ، وظلوا يتعاملون معها كإرث ورثوه عن آبائهم أوكبقرة حلوب يحلبون خيراتها ويأكلون ثرواتها والشعب يفترش الأرض ويقتات الهواء .
لقد ضرب الشعب التونسي أروع الأمثلة في التحرر من الإستبداد ، وسطر أروع ملحمة لم يرى مثلها جيلنا على الأقل ، عندما قرر هذا الشعب العظيم أن يطرد قاتليه ومجوعيه ، أن يتخلص من مستبديه وآكلي حقوقه بكل بسالة ، خرج الشعب التونسي إلى الشارع دون خوف من الرصاص ، يرون الدماء تجري آمامهم والرصاصات تتجه نحو صدورهم وهم يستقبلونها بكل رحابة صدر وكأنهم يشتمون رائحة التحرير مع رائحة البارود والقنابل التي كان يستعملها رجال الأمن ،وهنا تكمن قوة حركة الشعوب وخروجها عندما يدركون أن هناك ما هو أكبر من الأرواح وأكبر من التضحيات ألا وهو هذا الوطن الكبير ، هذا الذي تصغر أمامه الشخصيات والزعامات والقيادات والأشخاص ...
لقد مثل هذا الخروج لهذا الشعب أملاً كبيراً للغالبية العظمى من الشعوب العربية ، وتفاؤلاً غير مسبوق لدى شعوب المنطقة التي ترزح تحت الإستبداد والجوع و المرض والتخلف والأمية ، لقد أعطت هذه الثورة الشعبية درساً لكل الزعامات العربية بأن لا رئاسة مدى الحياة وأن الشعوب ليست ميتة على الإطلاق ولكن صبرها طويل ومتى ما انتفضت لن ترحم وأن الديمقراطية هي الحل وأن الاسبتداد نهايته التحليق بحثاً عن مكان يأوي الطاغية ..
في كل الأحوال فإن الخيارات الشعبية هي الخيارات الأقدر على الإستدامة والمقاومة ، فلا توجد قوة حية تستطيع أن تحرك الجماهير سوى قناعاتها ورؤيتها التي تترسخ بفعل عوامل كثيرة وبفعل مرورها هي نفسها بتجارب عدة تجعلها قادرة على الدفاع عن المنطق والفعل التي تتحرك باتجاهه .
لا ننسى في الآخير أن نقول
شكراً للشعب التونسي ، شكراً للأحرار في كل مكان ، ويعطيكم ألف عافية ..
طه الإدريسي

صدقت يا طه صحت لسانك ودامت ايامك على تواصل معنا
نعم لكل طـــــــــــــــاغيــــــــــة نـــهــــايــــــــــة