ن طفلةٍ من أرحب: فلسفة جسد مثخنالمصدر أونلاين ـ سلمان الحميدي
..وكأنها ولدت لتكون هدفاً محققاً للشظايا..
الطفلة عبير كمال مهدي الجندبي، بدا جسدها مثخنٌ بالشظايا، وبدت مساماتها الجلدية ثقوب مفتوحة غنيةً عن الحياة..
كل ذنبها أنها ولدت في زمن لا يرحم، أين الرحمة من صورة بشعة كهذه
الواقعية التي بين أيدينا والتي تغني عن آلاف الكلمات، إن لم تأب الكلمات
على التلفُظ..
ذات مساء في أواخر التسعينيات ولدت عبير، وفي إحدى مساءات الألفية الثالثة
من الأسبوع الفائت شيعت أحلامها إلى المثوى الأخير وتركت القلوب باكية،
كما شيعتها صواريخ "الحرس الجمهوري" إلى المقبرة، دون أن تدع الكاتيوشا
الطفلة عبير من إلقاء تحية الوداع على أقاربها..أهل منطقتها
المنكوبين..ورفيقاتها في المدرسة..
ثلاثة عشر عاماً - كما حاولنا قراءة العمر من الصورة نتيجة الظروف الصعبة
لإيجاد ما بعثرته صواريخ «لو» وقذائف الآر بي جي - هذه الأعوام كانت كفيلة
بتعليم الفتاة عبير أبجديات الحياة بكل أحرفها :"المعاناة حيث مجابهة الألم
بالأمل ..القبيلة والدولة..الزامل والنشيد الوطني..المدرسة
والعادات..وصولاً إلى مبدأ «فاجعة اللحظة الآنية» طلب الحياة والموت
قسراً..
لم تشفع لها الألفية الثالثة الخوض في تفاصيل الحداثة ولا معرفة: كيف تكون
متشدقاً بالإنسانية الزائفة وقاتل محترف في نفس الوقت؟! كيف تكون الشيء
وضده معاً ؟!..وكيفية التعايش تحت غيمة التناقضات الغريبة التي أثقلت كاهل
المجتمع بثنائيات "التناقض والإنفصام"..
كانت عبير الجندبي بحاجة إلى إعادة ترتيب مستلزماتها المتطلبة من جديد
استعداداً للعام الدراسي القادم لتكتب بالحبر وتُحمل عقلها بالمعلومة في
القرن الواحد والعشرين الموصوف بأقل ما يمكن وصفه :غزو الفضاء الخارجي
مُقابل انفجار العنف في البلد نتيجة تحكم العقول المفعمة بالإثم والقتل
بصيرورة الحياة المعيشية للبسطاء..
دعوها تنام وإلى الأبد على عزف ملائكي بديع، مقارنةً بنومها السابق عندما
كانت تداعب بمخيلتها المستقبل المدني المنشود وتقلب بأناملها حسابات اللحظة
الآتية، وقتها كانت تغط في نومها ببراءة غير مكترثة براجمات الصواريخ
وقذائف الهاون وأزيز الرصاص ودوي المدافع ،كل هذا مُخيفٌ بالنسبة للكبار
وليس سمفونية يعزفها الموسيقي العالمي "بيتهوفن"للطبقة النخبوية عند
الاسترخاء على الأرائك..
بينما كان الجميع يتقلبون على الفُرش محاولاً النوم ،تهادى إلى المنزل
صاروخ باذخ في الجرم من أعالي الجبل الذي تتمركز فيه قوات الحرس الجمهوري
،لم يتريث أو يستأذن للدخول مُخالفاَ للوائح والشرائع والعادات والتقاليد،
هذا ما كان يدور بخلد رب الأسرة :قداسة البيت لا يمكن لأحد أن ينتهكها
؛ولكن القاعدة كُسرت وتم نسف القداسة من أساسها، دون اعتبار لأي شيء ..
عبير فارقت الحياة وشقيقتها تنام في غرفة العناية المركزية في إحدى مستشفيات العاصمة مُرَاوحةً بين الحياة والموت..
عبير أيضاً فَلْسَفَتْ موتها بقرار موجز وأخير، هو القرار ذاته الذي رواه
الأديب الراحل غسان كنفاني على لسان بطل القصة الثائر /عبدالجبار:
"ليس المهم أن يموت أحدنا ،المهم أن تستمروا"..
انقلا عن المصدر اولاين